فصل: الشبه المثارة حول هذا القول والرد عليها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدخل لدراسة القرآن الكريم



.الشبه المثارة حول هذا القول والرد عليها:

ولكي يخلص لنا هذا الرأي ممحصا مصفى، سنذكر بعض التوضيحات له، والشبه التي أثيرت حوله، ونجيب عليها، حتى يتبين لنا أنه الرأي المروي والمختار.

.الشبهة الأولى:

إن قال قائل: في أي موضوع من القرآن نجد حرفا واحدا مقروءا بسبع لغات مختلفات الألفاظ، متفقات المعاني، حتى يصح لنا أن نفسر الحروف السبعة بوجوه ولغات سبع والجواب: أننا لم ندع أن ذلك موجود اليوم، وإنما قلنا: هذا هو معنى الحديث، ثم جدّت ظروف وضرورات اضطرت الأمة بسببها أن تقتصر على حرف واحد منها، وهو حرف قريش.
وإنما لم أقل في الجواب إن في القرآن ما يقرأ على سبعة أوجه مثل: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ}، {فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ} و{جبريل}، لأن الاختلاف في هذه اختلاف قراءات: وهو أداء اللفظ الواحد بطرق مختلفة الأداء، وليس اختلاف حروف، أي ألفاظ وكلمات على ما بينا في المذهب المختار، والقراءات الثابتة على اختلافها وتنوعها ترجع إلى حرف واحد، وهو حرف قريش، الذي جمع عثمان عليه المصاحف.

.الشبهة الثانية:

إن قيل: أين ذهبت الأحرف الستة الباقية مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بها، وأمرهم بقراءتها، وأنزلهن الله من عنده على نبيّه أنسخت هذه الأحرف الستة الباقية فرفعت وإذا كان، فما الدليل على نسخها ورفعها؟
والجواب: أن الأحرف الستة الباقية لم تنسخ ولم ترفع، ولم تضيعها الأمة وإنما الأمة أمرت بحفظ القرآن، وخيرت في حفظه وقراءته بأي تلك الأحرف السبعة شاءت، كما أمرت إذا حنثت في يمين وهي موسرة: أن تكفر بأي الكفارات الثلاث شاءت: إما بعتق، أو إطعام، أو كسوة، فلو أجمعت الأمة جميعها على التكفير بواحدة من الكفارات الثلاث، دون حظر ما عداها كانت مصيبة؛ مؤدية في ذلك الواجب عليها من حق الله، ووصفت بأنها مطيعة لا عاصية فكذلك الأمة أمرت بحفظ القرآن وقراءته، وخيرت في قراءاته بأي الأحرف السبعة شاءت، فرأت لعلة من العلل أوجبت عليها الثبات على حرف واحد- قراءته بحرف واحد، وترك ما عداه.
فإن قيل، فما العلة قلنا: هي ما قدمنا من أن الأحرف السبعة، التي جعلت للتيسير، ورفع الحرج أضحت سببا للنزاع والاختلاف، بل والتكفير على نحو ما قلنا آنفا.

.الشبهة الثالثة:

إن قيل: كيف يلتئم هذا الرأي الذي اخترتموه في تأويل الحديث مع ما أثر عن عثمان رضي الله عنه أنه قال للرهط القرشيين الذين كانوا مع زيد بن ثابت في نسخ المصاحف: ما اختلفتم فيه- أنتم وزيد- فاكتبوه بلسان قريش! فإنما نزل بلسانهم.
قلنا في الجواب: إن قول عثمان محمول على ابتداء نزوله، وهو الحرف الأول الذي نزل به جبريل، وطلب النبي صلى الله عليه وسلم الزيادة عليه؛ فقد نزل جبريل بهذا الحرف أولا، ثم كان يأتي بالحروف في عرضاته القرآن مع النبي كل عام في رمضان، فكان ينزل الله سبحانه في هذه العرضات ما شاء أن ينزل من ألفاظ اللغات الأخرى، التي تدعو إليها الحاجة، ثم كان أن استقر الأمر آخرا بعد زوال الضرورة على هذا الحرف، وهو لغة قريش.
أو يكون مراد عثمان: أن معظمه وأكثره نزل بلغة قريش.
نقل الإمام أبو شامة عن بعض الشيوخ أنه قال: أنزل القرآن أولا بلسان قريش ومن جاورهم من العرب الفصحاء، ثم أبيح للعرب أن يقرءوه بلغاتهم التي جرت عاداتهم باستعمالها، على اختلافهم في الألفاظ والإعراب، ولم يكلف أحد منهم الانتقال من لغة إلى أخرى للمشقة، ولما كان فيهم من الحمية ولطلب تسهيل فهم المراد، كل ذلك مع اتفاق المعنى، وعلى هذا يتنزل اختلافهم في القراءة كما تقدم، وتصويب رسول الله كلا منهم.
قال الحافظ ابن حجر معلقا: وتتمة ذلك أن يقال: إن الإباحة المذكورة لم تقع بالتشهي، أي أن كل واحد يغير الكلمة بمرادفها في لغته، بل المراعى في ذلك السماع من النبي صلى الله عليه وسلم ويشير إلى ذلك قول كل من عمر وهشام في حديث الباب: أقرأني النبي صلى الله عليه وسلم.

.الشبهة الرابعة:

قالوا: لو كانت الحروف السبعة هي لغات سبع من لغات العرب المشهورة، فكيف اختلفت قراءة عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم رضي الله عنهما وهما قرشيان، ولغتهما واحدة.
والجواب: أن العبرة في القراءة بالحروف هو السماع من النبي صلى الله عليه وسلم لا أن يقرأ كل واحد بهواه، على حسب ما يتسهل له من لغته، وإنكار بعضهم على الآخر لم تكن لأن المنكر سمع ما ليس من لغته فأنكره، وإنما كان لأنه سمع خلاف ما أقرأه النبي صلى الله عليه وسلم وجائز جدّا، أن يكون أحدهما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم حروفا بغير لغة قريش فحفظها، وسمع الآخر حروفا بلغة قريش فحفظها، وثبت كل واحد منهما على ما سمع من النبي، فمن ثم اختلفا مع كونهما قرشيين، وكون بعض الناس يعرف غير لغته الأصلية، ويتسهل له، وينطق بها كما ينطق بها أهلها أمر مشاهد معروف، وهل قال أحد:
إن كل واحد من العرب كان يلتزم القراءة بلغته دون غيرها حتى يستشكل ذلك ولو كان الأمر كذلك لقال عمر لهشام: لقد قرأت بغير لغة قومك، ولكنه لم يحدث، وإنما أنكر عليه حروفا لم يقرئه إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

.الشبهة الخامسة:

كيف تقولون: إن الحرف الذي استقر عليه الأمر آخرا هو حرف قريش مع أن في القرآن كثيرا من الكلمات بغير لغة قريش مثل: الْأَرائِكِ فقد قيل: إنها بلغة اليمن.
ومثل: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا} أي: أفلم يعلموا بلغة هوازن، ومُراغَماً أي متفسحا بلغة هذيل إلى غير ذلك من الكلمات.
وقد ذكر السيوطي في الإتقان في النوع السادس والثلاثين الكثير من ذلك.
والجواب عن هذا:
أ) أن ما ورد من هذه الألفاظ، وإن كانت في الأصل من غير لغة قريش لكن قريشا أخذتها واستعملتها حتى صارت قرشية بالاستعمال، ومعروف أن مركز قريش هيأ لها أن تأخذ من اللغات الأخرى أعذبها وأسلسها.
ب) أن هذه الكلمات التي ذكرتموها مما توافقت فيه لغة قريش وغيرها إلا أنها عند غير قريش أشهر وأعرف، وتوافق اللغات في بعض الكلمات أمر غير مستنكر ولا مستغرب.
وأيا كان الحال فوجود هذه الكلمات في القرآن لا ينافي كون القرآن بلغة قريش.
ومثل هذه الكلمات التي جاءت في القرآن، وقيل إنها غير عربية في الأصل كالمشكاة والقسطاس، وإستبرق ونحوها، فإنها إمّا صارت عربية بالاستعمال أو أنها مما توافقت فيها لغة العرب وغيرهم، ولم يطعن وجودها في كون القرآن عربيّا مبينا.

.الشبهة السادسة:

إن قيل: ما هي اللغات السبعة التي نزل بها القرآن ومن أي ألسن العرب كانت قلنا: لا حاجة بنا اليوم إلى معرفة الألسن الستة الأخرى، ولا إلى القراءة بها بعد أن اندرست وعفت آثارها، وبحسبنا هذا اللسان الباقي وهو لغة قريش وقد قيل: إن خمسة منها بلسان العجر من هوازن، واثنين لقريش وخزاعة، روي ذلك عن ابن عباس؛ إلا أنه لا يصح عنه.
وكل ما قيل في تعيين اللغات السبع لم يثبت بطريق صحيح.
وقد اختلف في تعيينها اختلافا كثيرا، ومن أراد معرفة ذلك فليرجع إلى الإتقان.
والذي نراه: أنه كان نزل على سبع لغات من لغات العرب المشهورة وأفصحها وليس في البحث عن تحديدها كبير غناء ما دام أن الحرف الباقي وهو حرف قريش أفصحها وأعذبها وأسلسها، وما دامت الأحرف الأخرى قد اندرست، ولم يبق منها شيء.

.منزلة اللغة القرشية بين لغات العرب:

ولكي تزداد يقينا بأن قريشا أفصح العرب، ولسانهم أفصح الألسنة وأعذبها ننقل لك بعض ما قاله الأئمة في هذا المقام:
قال ابن فارس في فقه اللغة، عن إسماعيل بن أبي عبيد الله، قال:
أجمع علماؤنا بكلام العرب والرواة لأشعارهم، والعلماء بلغاتهم وأيامهم ومحالّهم أن قريشا أفصح العرب ألسنة، وأصفاهم لغة، وذلك أن الله تعالى اختارهم من جميع العرب، واختار منهم نبي الرحمة محمدا صلى الله عليه وسلم فجعل قريشا قطان حرمه، وولاة بيته، فكانت وفود العرب من حجاجها وغيرهم يفدون إلى مكة للحج، ويتحاكمون إلى قريش في أمورهم، وكانت قريش تعلمهم مناسكهم، وتحكم بينهم، ولم تزل العرب تعرف لقريش فضلها عليهم وتسميتها أهل الله؛ لأنهم الصريح من ولد إسماعيل عليه السلام لم تشبهم شائبة، ولم تنقلهم عن مناسبهم ناقلة، فضيلة من الله جل ثناؤه لهم وتشريفا، إذ جعلهم رهط بيته الأدنين، وعترته الصالحين.
وكانت قريش مع فصاحتها، وحسن لغاتها، ورقة ألسنتها إذا أتتهم الوفود من العرب تخيروا من كلامهم وأشعارهم أحسن لغاتهم، وأصفى كلامهم فاجتمع ما تخيروا من تلك اللغات إلى سلائقهم التي طبعوا عليها، فصاروا بذلك أفصح العرب، ألا ترى أنك لا تجد في كلامهم عنعنة تميم، ولا عجرفة قيس ولا كشكشة أسد، ولا كسكسة ربيعة ولا الكسر تسمعه من أسد وقيس، مثل: تعلمون- بكسر التاء- وونعلم- بكسر النون- ومثل شعير وبعير- بكسر الأول منهما.
وقال الفراء:
كانت العرب تحضر الموسم في كل عام؛ وتحج البيت في الجاهلية، وقريش يسمعون لغات العرب، فما استحسنوه من لغاتهم تكلموا به، فصاروا أفصح العرب، وخلت لغتهم من مستبشع اللغات ومستقبح الألفاظ.
وقال أبو نصر الفارابي، في أول كتابه المسمى الألفاظ والحروف: كانت قريش أجود العرب انتقاء للأفصح وأسهلها على اللسان عند النطق وأحسنها مسموعا، وأبينها إبانة عما في النفس، والذين عنهم نقلت العربية، وبهم اقتدي، وعنهم أخذ اللسان من بين قبائل العرب هم: قيس وتميم وأسد، فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه وعليهم اتكل في الغريب، وفي الإعراب والتصريف، ثم هذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم.
وبالجملة: فإنه لم يؤخذ عن حضري قط، ولا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم المجاورة لسائر الأمم الذين حولهم؛ فإنه لم يؤخذ لا من لخم، ولا من جذام، لمجاورتهم أهل مصر والقبط، ولا من قضاعة وغسان وإياد، لمجاورتهم أهل الشام، وأكثرهم نصارى يقرءون بالعبرانية، ولا من تغلب؛ فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونان، ولا من بكر؛ لمجاورتهم للقبط والفرس، ولا من عبد قيس، وأزد عمان؛ لأنهم كانوا بالبحرين مخالطين للهند والفرس، ولا من أهل اليمن لمخالطتهم للهند والحبشة ولا من بني حنيفة، وسكان اليمامة، ولا من ثقيف وأهل الطائف لمخالطتهم تجار اليمن المقيمين عندهم، ولا من حاضرة الحجاز؛ لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين ابتدءوا ينقلون لغة العرب- قد خالطوا غيرهم من الأمم وفسدت ألسنتهم.
والذي نقل اللغة واللسان العربي عن هؤلاء، وأثبتها في كتاب فصيرها علما وصناعة هم أهل البصرة والكوفة فقط من بين أمصار العرب.